فصل: 4- علوم القرآن الكريم في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.5- الإعجاز والبلاغة:

الآيات الكريمة من أوائل سورة طه في قمة الفصاحة والبيان العربي، وهي كغيرها من كلام الله المعجز، وتمتاز نهاياتها بهذه الألف المقصورة التي تجعل في الأذن جرسا خاصّا، ونغما ساحرا، وفي السيرة النبوية لابن إسحاق: أن عمر بن الخطّاب لم يملك نفسه بعد سماعها أن قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
وفيها من البلاغة:
- {مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ} فيها الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، والفائدة:
أ- التفنن في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة.
ب- التفخيم أولا في: {أَنْزَلْنا} بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع، ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد، فضوعفت الفخامة مرتين.

.رابعا- الناسخ والمنسوخ: الحضّ على القتال والثبات:

.تمهيد:

فرض الله تعالى على المجاهد في سبيل الله أن يثبت لعشرة من المشركين فأقلّ، وكان هذا في أوّل الإسلام، والمسلمون عددهم قليل، والمشركون كثير، فلمّا كثروا خفّف الله عنهم، ففرض الله على الواحد أن يقف لاثنين فأقلّ.
قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال].

.1- شرح المفردات:

{حرّض المؤمنين على القتال}: حثّهم وحضّهم على القتال.
{بأنهم}: بسبب أنهم.
{قوم لا يفقهون}: لا يدركون حكمة الحرب، ويقاتلون على غير بصيرة، أو يقاتلون حميّة واتباعا لخطوات الشيطان.

.2- المعنى الإجمالي:

يا أيّها النبيّ حثّ المؤمنين حثا شديدا، حتى يقدموا برغبة ونشاط، ويثبتوا في مواجهة الأعداء، باذلين نفوسهم رخيصة في سبيل الله، ولهم البشارة من الله أن العشرين الصابرين المحتسبين أجرهم عند الله يغلبون مائتين، وأن المائة الصابرة يغلبون ألفا؛ لأنهم يقاتلون عن عقيدة ثابتة ونفس مطمئنة، وأعداؤهم يقاتلون حميّة جاهلية ولأغراض شيطانية خبيثة.
وثبات المسلم أمام عشرة فما دون هي مرتبة العزيمة، والمطلب الإلهي الأول، ثم رخص سبحانه للمسلم أن يثبت لاثنين، وكان التخفيف الإلهي في المطلب الثاني بسبب ضعف الأبدان وكثرة التكاليف وأعباء الجهاد في سبيل الله، مع ملاحظة أنه لا عبرة للعدد ولا للكثرة إذا لم تتوفر القوة المعنوية الناتجة عن جهاد النفس والالتزام بتعاليم الشرع.

.3- الأحكام الشرعية والتوجيهات المستفادة:

.أ- الأحكام الشرعية:

.1- التحريض على الجهاد:

وهو من واجبات القائد، وكان من سنة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يصفّ جنوده من الصحابة في مواجهة الأعداء، ويحثهم على القتال ويذمّرهم عليه، كما قال لأصحابه يوم بدر، حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض».

.2- الأمر بالثبات، والبشارة بالنصر:

أوجب الله على المسلمين في أول الأمر الإقدام على الجهاد مع العزيمة والشجاعة، والصبر والمصابرة، وثبات الفرد المسلم أمام العشرة، وبشرهم بالنصر والغلبة، ثم نسخ الله تعالى الأمر، وأبقى البشارة. وهذه المقابلة- وهي الواحد بالعشرة- فلم ينقل أن المسلمين صافّوا المشركين عليها قط.

.3- التخفيف من الله تعالى:

فقد أوجب سبحانه الثبات لرجلين، فخفّف عنهم من العدد، ونقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم. فالثبات أمام أكثر من اثنين رخصة، وأمام اثنين هو العزيمة المحكمة التي استقر عليها الحكم، وهذا ما يفيده كلام مالك رحمه الله عند ما سئل عن الرجل يلقى عشرة؟ قال: واسع له أن ينصرف إلى معسكره إن لم تكن له قوة على قتالهم.
قال ابن العربي: وهذا دليل على أنه يجوز له أن يثبت معهم.

.ب- التوجيهات المستفادة:

1- أهمية الصبر في ساحات الجهاد واكتساب النصر.
2- لا عبرة بالكثرة العددية في ميدان الحرب والنزال، بل العبرة بالقوة المعنوية، والإعداد المسبق، والأخذ بجميع الوسائل والأسباب.
3- أهمية التوكل على الله تعالى وطلب النصر بعد إعداد العدد والعدد.
4- الكفّار لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يتخذون الأسباب الكاملة المؤدية للنصر، فلا يحصدون إلا الخذلان والخيبة في الدنيا والآخرة.

.4- علوم القرآن الكريم في الآيات:

.1- الآيات مدنية:

لأنها من سورة الأنفال، وهي مدنية باتفاق، كما أن فيها الحديث واضحا عن الجهاد وأحكامه عامة، وعن غزوة بدر وما وقع قبلها وبعدها من مقدمات ونتائج، فضلا عما جرى أثناءها، وكل ذلك وقع بعد الهجرة باتفاق.

.2- أسباب النزول:

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66].

.3- الناسخ والمنسوخ:

والمنسوخ في هاتين الآيتين الآية رقم (65) من سورة الأنفال، والناسخ لها الآية التي بعدها رقم (66)، وهو من النوع الثاني من أقسام المنسوخ، حيث يرفع الله الحكم من الآية بحكم آية أخرى، وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه، متلوّ.
وهذا ثابت، لما رواه الإمام البخاري عن ابن عباس كما قدمناه في أسباب النزول، والقول بالنسخ في هاتين الآيتين هو المشهور عن العلماء وأكثر المفسرين.

.4- القراءات:

1- {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} [الأنفال: 65] {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ} [الأنفال: 66].
- قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: {إن تكن} {فإن تكن} بالتاء جميعا.
- وقرأ أبو عمرو: {فإن تكن منكم مائة صابرة} بالتاء، والأخرى- يعني: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ}- بالياء.
- وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ الحرفين جميعا بالياء. وليس عن نافع خلاف أنهما بالتاء إلا ما رواه خارجة عنه أنها بالياء.
2- {فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66].
- قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: {ضعفا} بضم الضاد.
- وقرأ عاصم وحمزة: {ضعفا} بفتح الضاد.

.5- الإعجاز والبلاغة:

الآية في القمة من الإعجاز والفصاحة مع الوضوح التام والعذوبة والسلاسة، وهذا لا يجتمع إلا في كتاب الله العزيز وكلامه الحكيم، وفيهما من البلاغة:

.الاحتباك:

في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وهو إثبات قيد الصبر في الشرط الأول، وحذف نظيره من الشرط الثاني. وإثبات صفة الكفر في الآية الأولى، وحذفها من الثانية، ثم ختمت الآية بالصابرين للمبالغة في طلب الصبر.

.خامسا- القصة في القرآن: قصة أصحاب الفيل:

.تمهيد:

يذكّر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بحادثة مشهورة كانت إرهاصا لرسالته، ووقعت في سنة مولده، وبيّن له في سورة مكية قصيرة كيف أهلك الله أبرهة وفيله وجنوده، بالطير الأبابيل، وجعل مكرهم وتدبيرهم لهدم الكعبة في ضياع أليم وخسارة فادحة.
قال الله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1- 5].

.1- شرح المفردات:

{أصحاب الفيل}: الذين قصدوا تخريب الكعبة، وهم من أهل الحبشة.
{أبابيل}: جماعات متفرقة، بعضها في إثر بعض.
{سجّيل}: طين متحجر.
{عصف}: ورق الزرع بعد الحصاد، كالتبن وقشر الحنطة.

.2- المعنى الإجمالي:

ألم تعلم يا محمد علما يقينا كأنّه مشاهدة العين، ما صنعه الله القدير بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم الكعبة؟! ألم يهلكهم ويجعل مكرهم وسعيهم في الاعتداء على البيت العتيق في ضياع وخسار؟! وسلط عليهم أضعف جنوده، فأرسل الطير تقذفهم بحجارة صغيرة من طين متحجر، تخرق كلّ من أصابته وتقتله، فجعلهم الله كورق الشجر الذي عصفت به الريح، أو كالزرع الذي أكلت منه الدوّاب ثم راثته.

.3- الأحكام والتوجيهات المستفادة:

.أ- الأحكام:

.1- قدرة الله تعالى:

وحكمته البالغة، في إهلاك الأحباش وهم على مقربة من البيت الحرام، وظهور قدرته سبحانه في إرسال الطير جماعات يقذفهم كلّ واحد منها بثلاثة أحجار ربانية، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يسقط على شيء من جيش أبرهة إلا دمّره وهشّمه.

.2- التوطئة لمبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والتأسيس لنبوته:

قال أبو حيان في البحر المحيط: كان صرف ذلك العدد العظيم عام مولده السعيد صلّى الله عليه وسلّم إرهاصا بنبوته، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد ضلّل كيدهم، وأهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل.

.3- تكريم الكعبة وتأكيد حرمتها:

لقد صان الله الكعبة، وصرف عنها أصحاب الفيل الذين عزموا على هدمها ومحو أثرها، فظهر التكريم الإلهي لبيته العتيق، وأكّد الرسول صلّى الله عليه وسلّم إكرامها وحرمتها، بقوله: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب».

.4- الفرق بين تعدّي الأحباش على الكعبة بمحاولة هدمها وتخريبها، وتعدّي قريش بإدخال الأوثان إليها وحولها:

أن الله سلّط عذابه على من قصد التخريب لأنه تعدّ على حقوق العباد، أما قريش فكان فعلهم تعدّيا على حقّ الله تعالى. وأما الحجّاج بن يوسف الثقفي، فلم يكن قاصدا تخريب الكعبة، وإنما أراد قتل عبد الله بن الزبير.